الشباب والقاسم المشترك بين الثقافات
ربما يكفي إلقاء نظرة سريعة على تاريخ أوروبا منذ القرن السابع عشر حتى يومنا هذا لمعرفة دور الشباب في تغيير معالم القارة الأوروبية وجعلها إلى حد بعيد قارة سلام ورخاء وإنتاج ثقافي غزير يتنقل فيها المرء بحرية، يسمع فيها لغات متعددة ولهجات أكثر تنوعاً ويلتقي بأعراقٍ وملل لا تحصى ضمن جغرافيا مختلفة التضاريس والماضي. لكن ما يجمعها هو قاسم مشترك ألا وهو الاهتمام بالشباب كعامل ضامن للمستقبل وحلقة للتواصل الثقافي المستمر والمتجدد.
التواصل بين الشباب سر إعادة بناء الثقة بين ألمانيا وجيرانها
لم تكن أوروبا دائماً على هذا النمط. ففي السنوات من 1618 حتى 1648 تعرضت كل أوروبا لما يسمى بحرب الثلاثين عاماً أو حرب الديانات التي راح ضحيتها من ألمانيا فقط 6 ملايين إنسان، حيث حصدت الحرب 40% من سكان الريف و33% من سكان المدن. وانتهت هذه الحرب بعد أن عم الدمار كل أوروبا وقتل من قتل وحرق ما حرق ولم يعد بمقدور أي طرف متابعة الحرب إلى أن جاءت اتفاقية السلام في مدينة أوسنابروك الألمانية عام 1648 لتضع حداً لهذه الحرب.
وما أن وضعت هذه الحرب أوزارها حتى نشبت نزاعات جديدة وحروب هنا وهناك تكللت بالحرب العالمية الأولى من 1914 حتى 1918 التي سقط فيها ما يزيد على 9 ملايين جندي منهم ما يزيد على مليوني جندي ألماني، هذا ناهيك عن المدنيين. وانتهت الحرب بمعاهدة باريس التي جعلت ألمانيا تخضع لدفع التعويضات الهائلة للدول الأخرى. فقد نصت معاهدة فرساي على ذلك وفرضت عملياً عام 1929 على ما يسمى بجمهورية فايمار دفع 4 مليارات «مارك رايخ ألماني» أي ما يعادل 800 مليون «مارك ذهب». وعندما جاء هتلر للسلطة أوقف دفعها عام 1933، ثم استأنفت ألمانيا دفع الفوائد التي ترتبت على هذه الديون حتى سددتها على مدى عشر سنوات من عام 2000 حتى 2010. ثم تلتها الحرب العالمية الثانية من 1939 إلى 1945 والتي راح ضحيتها 60 إلى 65 مليون إنسان من بينهم حوالي 6,5 مليون ألماني.
وقد لاحظ الساسة الألمان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية عام 1949 ضرورة إعادة بناء الثقة بين ألمانيا وجيرانها خاصة فرنسا. وكانت الفكرة السائدة في ذلك الحين أن المستقبل هو الأساس الذي ينبغي البناء عليه وأنه لن يتسنى ذلك إلا من خلال إرادة الشباب. ومن هنا تم التوقيع حينها من قبل المستشار الألماني كونراد آديناور (الحزب المسيحي الديمقراطي) والرئيس الفرنسي شارل ديجول في قصر الإليزيه بباريس معاهدة بين فرنسا وألمانيا الاتحادية في 22 يناير/كانون الثاني 1963 سميت بمعاهدة الإليزيه تضمنت التعاون الفرنسي الألماني بما في ذلك في مجال الثقافة والتبادل الشبابي وتم تأسيس هيئة التبادل الشبابي الألمانية الفرنسية. ومنذ ذلك الحين وضع 180 برنامج تبادل علمي بين البلدين وتم إنشاء محطة تلفزيونية مشتركة و2200 توأمة بين مدن ألمانية وفرنسية وأنشئت مدارس وحضانات ورياض أطفال باللغتين الألمانية والفرنسية.
مبادرة «بالعربي» بداية مثالية لتفعيل العامل المشترك. وعندما نختار لغتنا ونواجه التحديات، سنصل ونؤثر، بل سنكون أكبر قدرة على جني الفرص المستقبلية
ولو تحولنا في نظرتنا لعالمنا العربي اليوم فنجد الشباب هم الأغلبية في كل أنحاء العالم العربي ولا يجمعهم التاريخ والديانات فقط، بل تجمعهم اللغة العربية أيضاً. وجربوا وما زالوا ويلات الحروب والجوع بكل ألوانها. ولكن لماذا لم يلحقوا بركب الشعوب بعد؟ وفي «عام زايد»، طيب الله ثراه، لا بد لي من الاستشهاد بمقولة يشير فيها لضرورة الاهتمام الكامل بالشباب في الوطن العربي. إن الواجب على العلماء والخبراء على مستوى العالم العربي أن يقوموا بدورهم تجاه قضايا الشباب، والعمل على حل مشاكلهم، لكي يتحملوا مسؤولية العمل الوطني لاحقاً.
لقد أدركت القيادة الحكيمة في الإمارات العربية المتحدة من خلال مبادرة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أهمية القاسم المشترك بين الشعوب والثقافات، فولدت على يديه مبادرة «بالعربي». التي جاءت كفكرة قام بطرحها على مؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم مجموعة من طلبة جامعات الإمارات وبمشاركة عدد كبير من الشباب المتطوع من جامعات عدة في الدولة، وتبنَّت المؤسسة الفكرة، وعملت على تطويرها بالتزامن مع «اليوم العالمي للغة العربية» الذي حددته الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثامن عشر من ديسمبر/كانون الأول من كل عام. حيث تحرص المبادرة على الاحتفاء باللغة العربية في يومها العالمي عن طريق التشجيع على استخدام اللغة العربية فقط. وإذا عرفنا أن اللغة العربية لا تقتصر على العرب بل ينطق بها المسلمون في كل أنحاء العالم ولو بتفاوت والذين يصل عددهم إلى 2,173 مليار نسمه يستخدمون اللغة العربية خمس مرات في صلواتهم اليومية على الأقل، فإن هذا العامل يعد من أهم أسس التعايش والتبادل الثقافي. وكي لا ينتهي بنا المطاف في دائرة المتشائمين، وهم ليسوا بالقلة، تلك الدائرة التي تأخذنا في مسار واحد ينتهي إلى القول بأن واقع المسلمين ولسان حالهم يبرهن على أنهم كغثاء السيل لم يستطع الدين ولم تستطع اللغة أن يكونا قاسماً مشتركاً يجمعهم للانطلاق من أجل المساهمة في الحضارة الإنسانية في الوقت الحاضر. ولو حسبنا ذلك بالأرقام، وهو ما تعلمته في شركة اتصالات، أين هي أرقامك؟ وأين هي حجتك؟ فلو افترضنا أن هذا العدد من المسلمين الذي يصلي خمس مرات يوميا ويقضي 15 دقيقة فقط في الصلاة التي ينطق خلالها باللغة العربية لوجدنا أن هناك ما مجموعه 162.975.00.000 دقيقة في مختلف أنحاء العالم يستخدم فيها الناس يومياً اللغة العربية. أليس هذا بالقاسم المشترك الكافي بين العرب على الأقل؟ لا يجوز لنا كعرب المرور بهذا الموضوع مر الكرام. إنه بإمكاننا فعلاً أن نؤثر بأنفسنا وبالعالم، وإن مبادرة «بالعربي» قد تكون بداية مثالية لتفعيل العامل المشترك. وعندما نختار لغتنا ونواجه التحديات الآنية بها، فإننا سنصل ونؤثر، بل سنكون أكبر قدرة على جني الفرص المستقبلية الأفضل. إن هذه هي مسؤولية كل العرب. ولكن ليس كل العرب قادرين على القيام بهذه المهمة. فأولويات غالبية العرب لا تتجاوز الحصول على وظيفة من أجل تأمين قوت الحياة اليومية ودفع تكاليف مدارس الأبناء وعلاجهم.
إننا في الإمارات العربية المتحدة، حيث تنبت الآمال وتتحقق الأحلام وتنسج الأمنيات قادرون بإذن الله على الأخذ بزمام المبادرة وتفعيل اللغة العربية من أجل المساهمة في بناء حضارة وثقافة إنسانية. ويعلمنا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بأن الإيجابية تجلب التفاؤل والتفاؤل يلد الأحلام، ونحن اليوم في الإمارات نحقق الأحلام، وكلما انشطرت أحلامنا ووصلت لغيرنا ازدادت الإمارات تألقاً وجمالاً وتحقق السلام وأصبح الأمل واقع حياة.
نشر في صحيفة الخليج 11 يونيو 2018